الافتتاحية

نقف اليوم في ذكرى عامٍ على محطةٍ خُيّل فيها لمجتمعنا أنه مدعوٌّ لاختيار مصير لنفسه، وخُيّل فيها لنا أن اقتحامنا للدعوة كان كفيلاً بإبراز خيار حقيقي امامه. ربما أثقلنا مجتمعنا حين طالبناه بأن ينحاز لمسارٍ لم يستطع تخيّله، وقد قسونا على أنفسنا حين حمّلناها مسؤولية التحدّي. لكن هل كان الخيار بمعرض الانتخابات المنصرمة أكثر من مفاضلة بين معروض ومعروض آخر؟ فكيف لنا اذاً ألّا ننسحر بأضواء العروض الأكثر مسرحةً ولمعاناً وان تجوّفت نصوصها؟ يبدو، وبعد مرور عام، أنّ المطلوب حقّاً كان إيهامنا أنّ واقعنا اخترناه نحن، ولا لوم على أحد فيه سوانا.

نقف في ذكرى عامٍ على مفصل أفصح فيه جزءٌ وازنٌ من مجتمعنا مجدداً، انّه يأبى الجمود ويتوق للتغيير. فلماذا نجد اليوم أنفسنا أكثر رضوخاً للواقع نفسه؟ لماذا يزداد تأقلمنا إن كنا قد ازددنا تمرّداً؟ وما زلنا ننساق نحو واقع أكثر شحوباً، فالباطش يزداد في بطشه، والبائس في بؤسه، ومن كان مجاهراً في عصيانه ارتضى السكوت. ليس أصعب من غياب الأمل، الّا افتقاده بعد امتلاكه.

من البديهي أن تُصوّر الانتخابات على انها الآلية الصريحة لتداول السلطة، كمساحة ديمقراطية يمنح عبرها الناس ثقتهم لأفراد يتعهدون تأدية أدوار مرسومة وفق مواقف معلنة. انما اجرائها في ذاك الظرف جاء تثبيتاً لشرعية أدوار معلّبة طائفيّاً ومناطقيّاً، تضمن فيها السلطة استمرار النهج بكلفة محمولة، أي بتبدّل بعض الوجوه من ضمنها. ومن جهة أخرى، رأى البعض أن الفرصة مؤاتية ليكونوا إحدى تلك الوجوه الجديدة القادرة على اجتذاب الثقة كأفراد، من خلال انصياعهم لقواعد السلطة المعتادة وأدوارها المفروضة. بذلك، كادت العملية الانتخابية أن تنحصر بتنافس على من يتولى تلك الأدوار المحددة مسبقاً، وما كان لنا الّا أن نقارع السلطة في مسعاها، بمنازلتها على شرعيتها، باجتهاد نموذج يبتدع أدواراً مغايرة في الشكل، والمقاربة، والممارسة، والخطاب. نموذجٌ لم يكلل بالوصول، لكنه أعلن ولادته.

بعد أن التقطنا أولى الأنفاس، نسترجع مقاربتنا للمحطة تلك بغية توثيقها، بل وتقييمها نقديّاً ومنهجيّاً، لما تحمله التجربة من عِبر ودروس، خاصة إذا ما أدّى النقد بنا إلى فهم جديد لحيثيات ممارساتنا السياسية. لن نتغاضى عن إخفاق أو فشل ما بحجة الغموض المبرر، نغفل بسببه إجابات موجبة لأسئلة علينا طرحها ومواجهتها بثقة عالية وجرأة. نصبوا لبناء أرضية فهم مشتركة مع خائضي التجربة، ومؤيديها، والمتعاطفين معها، والمتحفظين عليها، وصولاً الى أشرس الناقدين لها، تزيدنا وضوحاً والتزاماً. ما نطمح اليه هو استخلاص فهم واقعي واستنتاج إمكانات نستطيع ترجمتها في ممارساتنا السياسية الحالية والمستقبلية، تنصف مجتمعنا بمراكمة تجاربه، ونعبر بها نحو مجتمع من القادرين على تخطي ما يبدو مستحيلاً.